وخلاصة القول هي أن شرط عدم التوقع المعتبر كشرط جوهري لتكوين النظرية التي نحن في صددها، وفي تكوين نظريات مشابهة تقوم على الحتم والمفاجأة كنظرية القوة القاهرة، يتطلب لاكتماله، كما بينا، أن يكون أولا محتمل الوقوع، وثانيا لا يمكن تجاوزه بتلافي أو تخطي ذلك الوقوع، وكل ذلك على أساس معايير موضوعية بحتة وضعها الفقه والاجتهاد تتخذ أساسا لها شخص الرجل المتوسط والمعتاد.
الفقرة الثالثة: حـالات عـدم التوقــع
بعد أن بينا في الفقرة السابقة ماهية الظرف غير المتوقع ومفهومه على ضوء الفقه والاجتهاد، يعترضنا تساؤلان: الأول هو في إظهار المقصود بالظرف غير المتوقع، هل هو الحادث بمجرده، أم أنه يشتمل أيضا على أثره ونتيجته، أم أنه يكتفي بتحقق الحادث أو بمعنى نتيجته، للإبقاء على الصفة غير المتوقعة للظرف الطارئ، وهو الشرط المطلوب لتكوين النظرية، والثاني يرتبط أساسا بطبيعة خاصة لشرط عدم التوقع، هل يمكن استبعادها بإرادة الأطراف المتعاقدة ، أم أن ذلك الاستبعاد لا يقتضي إعماله أو مجرد الأخذ به لمخالفته مصالح عليا تفرض المحافظة عليها ولو كان ذلك عن طريق التضحية بالمصالح الخاصة والفردية للمتعاقدين، وهي حالة توقع التغيرات النقدية والتحول في الظروف الاقتصادية العامة عن طريق المحاولة لتلافي نتائجها بوضع بنود واشتراطات عقدية خاصة تعالج ما قد يستجد من تقلبات.
إن عدم التوقع لا يشترط احتواؤه لكل من الظرف ونتيجته،فعدم توقع الظرف بمجرده توقعه مع عدم توقع نتائجه كاف لتطبيق النظرية التي نحن بصددها،كما أن البنود العقدية الموضوعة لتوقي الانخفاضات المتوقعة في سعر العملة أو التقلبات الاقتصادية العامة قد تقضي باعتبارها شرعية مما يفرض الأخذ بمضمونها، وقد تقضي بعكس ذلك فيصار إلى إبطالها، وقد تؤدي إلى إبطال العقد بكامله وذلك بحسب طبيعتها وبحسب خطورتها على المصالح العليا التي تبرر حمايتها كما سنرى.
أ- إذن فما المقصود بالظرف غير المتوقع: الحادث أم النتيجة
إن ما يحملنا على البحث عن المقصود بالظرف غير المتوقع بعد أن بينا المقصود بماهيته هو سببان:
الأول: يتعلق في عمومية ما ينطوي عليه عدم التوقع، إذ أنه يعني أمرين أو أحدهما: الحادث بحد ذاته ونتيجته فقد يكون الحادث متوقعا أو غير متوقع بمعزل عن نتيجته، وقد تكون نتيجته متوقعة أم غير متوقعة بمعزل عن الحادث نفسه.
والثاني: أهمية التمييز بين ذلك الوضعين المشار إليهما الحادث ونتيجته على عكس ما يراه البعض. فالمشرع المصري قد اتخذ موقف الجمع بين الحالتين دون تفرقة بينهما بنص المادة 147 فقرة 2 من القانون المدني لسنة 949، كما أنه قد سبق لبعض رجال الفقه أن اعتمد هذه النتيجة،والسبب في ذلك يعود إلى التحليل القائل بأن توقع الحادث يستتبع معه فرضا توقع كامل نتائجه. فارتفاع الاسعار أثناء الحرب هو من نتائج الحرب نفسها. فالشخص العادي يتوقع مثل ذلك الارتفاع المرافق لحالة الحرب وما قد تفرضه من تشريعات وتدابير من شأنها أن تزيد في الأثمان أو في الأجور عامة. فكل شخص متبصر لحقائق الأمور من شأنه أن يتوقع أي ارتفاع في سعر سلعة معينة سيما أثناء الحرب إذا كانت لم تنته وقائعها. فتوقع الحرب يترك في حقيقته توقع نتائجها .
إن هذا الدمج بين الحادث مجردا، وبين ما قد يترتب عليه من نتائج لا يخلو من عدم الدقة في الواقع. فعدم التوقع لا يقتضي أن ينظر إليه من زاوية الحادث نفسها بل من زاوية نتائجه كذلك. فماذا يهم عند البحث في انطباق النظرية- أن يكون الحادث قد جرى توقعه إذا كانت نتائجه مما لم يصر إلى توقعها.
إن التوقع أو عدمه يفترض لإيضاحه استعراض حالات
وواضح من ذلك أن الأستاذ السنهوري يقيم تمييزا بين حالتين:
الحالة الأولى: يختل فيها التوازن العقدي، إلا أنه اختلال مألوف في التعامل تنبغي ملاحظته عند التعاقد. فهناك نوعان من الأعباء التي تنتج عند تنفيذ العقد عادة:الأعباء المتعامل بها وهي التي يتحملها المدين دون أن تستحق له أية مطالبة بتعويض عن تحملها، إذ كان عليه أن يضعها في اعتباره وقت التعاقد، "فالتعامل مكسب وخسارة". والأعباء الاستثنائية هي التي تتجاوز ما هو متسامح به في الغالب، فهذه لابد من تحميلها للمتعاقد إجمالا ولكن بنسب متفاوتة بهدف إزالة الإجحاف الذي قد يصيب المدين المرهق بسببها.
والحالة الثانية: يختل فيها التوازن العقدي اختلالا غير مألوف، تنتج عنه "خسارة خاصة" و"فادحة" بالمدين المتعاقد. وهذه الوضعية الاستثنائية تبدأ في المرحلة التي تتخطى فيه الخسارة الحاصلة الحد المعقول للخسارة المألوفة والمتوقعة بحسب نوع الصفقة وموضوع المعاملة. فلا يكفي إذن أن ينتج عن التعاقد مجرد صعوبة في التنفيذ، بل لابد من أن يكون هناك اختلال فعلي وحقيقي في الالتزامات والحقوق لدى المتعاقدين .
وهذا الاختلال لا يتحقق إلا عند تجاوز الثمن الفعلي المطلوب تنفيذه للثمن المحدد في كل صفقة. ويقصد "بالثمن المحدد" بأنه الخط الفاصل بين الارتفاع المحتمل في السعر الذي كان بالإمكان ملاحظته من الأطراف عند التعاقد، والارتفاع الذي يجاوز ذلك الارتفاع المحتمل .
من كل ذلك نتبين أمرين: الأول: إن الاختلال العقدي الذي يفسح المجال للأخذ بإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة هو الاختلال الاستثنائي وغير المألوف في التعامل – وهو الوجه الآخر للظرف الاستثنائي منظورا إليه لجهة تأثيره في العقد-. فأي اختلال في التوازن العقدي لا يؤدي بالحتم إلى تعديل العقد وتدخل القضاء،بل لابد من أن يكون دلك الإختلال جوهريا قد تجاوز في مداه ما يقتضي أخذه في الاعتبار من أعباء، أو القبول به وقت التعاقد. والثاني: إن مسألة إيجاد معيار أو مقياس نتوسط من خلاله للوقوف على حالات ذلك الاختلال الاستثنائي وهي مسألة موضوعية مرنة، يصعب وضع مقياس ثابت لها، ويعود للقاضي أمر تعيينها تبعا للظروف ولموضوع التعاقد. فالقول بأن الاختلال الاستثنائي في التوازن العقدي هو ذلك الاختلال الذي " يقلب اقتصاديات العقد بصورة جدية" أو الذي يهدد بخسارة فادحة، أو الذي يسبب للمدين خسارة خاصة كلها مقاييس تترك للإٍرادة القضائية سلطة واسعة في التحديد على ضوء الوقائع والظروف العامة للتعامل.
المطلب الثاني: معيـار الإرهــاق
إن ذلك المعيار يثير صعوبة هامة على الصعيد العملي. فالخسارة الفادحة التي تشكل الإرهاق المطلوب لتكوين عنصر الاستثناء للظرف الطارئ، منظورا إليه من خلال نتيجته، هل يقتضي أن ينظر عند تحديدها إلى المدين المتعاقد نفسه، أم إلى الصفقة ذاتها.و بعبارة أدق هل قياس ذلك المعيار يجد مكانه في مقياس شخصي خاص أم مقياس موضوعي عام.
1- المقياس الشخصي:
هناك فئة من رجال الفقه ترى في ذلك المقياس المحدد لحصول الخسارة الفادحة مقياسا ذاتيا بحتا. فالأستاذ بديع منصور يرى أن مسألة معرفة حصول الاختلال " المألوف وغير العادي في التعامل هي مسألة خاصة يعتد بها في كل حالة على حدة. فمجلس الدولة الفرنسي يأخذ بعين الاعتبار شخصية المتعاقد عند بحثه الانقلاب الاقتصادي في التعاقد. فهو ينظر إلى رقم أعمال الشركة، لمعرفة مدى ثروتها ومقدار ما تتمتع به من سيولة. كما أنه ينظر إلى نشاطات المتعاقد المختلفة ولو كانت متنوعة شرط أن تكون مرتبطة بالنشاط الرئيسي موضوع التعاقد، بحيث تشكل التوابع الضرورية له، أو إلى كافة النشاطات الأخرى التي يمارسها المتعاقد بموجب عقد يربطه بنفس المتعاقد" .
إن السبب في اعتماد هذا المقياس الشخصي رغم ابتعاد رجال الفقه عن اعتماده في مواطن أخرى هو الأساس الذي يشكل بنظرهم سببا لتعديل العقد عند حدوث ظروف غير متوقعة، فقاعدة العدالة ومبادئ الإنصاف هي التي توجه تكريس ذلك التعديل. والعدالة والإنصاف لا يؤخذ بهما كسبب لإعادة النظر إلا إذا نتج عن إلزامية التعاقد "ضرر" للمتعاقد يصيبه عند الإصرار على فرض تنفيذه لتعاقده. وهذا "الضرر" وتلك الصعوبة لا تصيب المدين إلا إذا كان غير مليء. فالمدين المليء بنظر بديع منصور يسهل عليه تنفيذ تعاقده، بحيث يصبح تحميل المتعاقد الآخر جزءا من الخسارة أمرا متنافيا مع أساس الظروف الطارئة ومع قواعد التعاقد.
إن هذا المقياس الشخصي لا يبدو أنه قد اعتمد من قبل الغالبية من الفقهاء أو في قرارات المحاكم وحتى الإدارية منها. فقرار مدينة آفينيون الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي قد قبل بمساعدة المدين عن خسارته بسبب الظروف الطارئة رغم أن ذلك المدين شخصيا قد بقي مستمرا في نشاطه، بل مستمرا في توزيع أرباحه. كما أن ذلك المقياس الشخصي من شأنه أن لا يأتلف مع إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة من جهتين: أولا : من جهة القواعد التي يريد أنصار ذلك المعيار تأسيس النظرية عليها. فقواعد العدالة ومبادئ الإنصاف إن كانت تشكل مبررا يساعد على الأخذ بهذه النظرية، إلا أنها لا تكفي بصورة عامة من الوجهة القانونية كسبب لذلك. ولا تتفق بصورة خاصة مع الغاية التي وضعت هذه النظرية لتحقيقها، وهي إعادة التوازن العقدي موضوعيا كلما اختل بفعل ظرف طارئ اختلالا غير مألوف وغير عادي وذلك بمعزل عن وضعية المتعاقد الشخصية أو ظروفه الخاصة.
وثانيا: من جهة مجال تطبيق تلك النظرية،فالأخذ بالمقياس الذاتي من شأنه أن ينتقص من مجال تطبيقها. فهناك أشخاص هم بطبيعتهم مليئين لا يتأثرون إطلاقا من الخسارة التي قد تقع في بعض عقودهم كالدولة مثلا أو الأشخاص المعنويين،أو الشركات الكبرى في الأنظمة الاقتصادية الحرة ولو كانت تلك الخسارة غير مألوفة. بل قد لا يؤدي ذلك الاختلال غير الاعتيادي إلى أي إرهاق قد يصيب المدين ذاته، كما لو كدس المدين كميات من موضوع الصفقة قبل ارتفاع أسعارها، فتنفيذه للعقد رغم ذلك وإن لم يؤد إلى إرهاقه سيؤدي بالحتم إلى معاقبته على يقظته وتبصره ، بحرمانه من أية إمكانية في الاستفادة من تطبيق النظرية لمصلحته، مع أن الوجهة الموضوعية تفترض ذلك. كما أن ذلك المقياس الشخصي كما يقول الأستاذ أسامة عبد الرحمان هو صعب التطبيق من الوجهة العملية. فهناك أولا صعوبة البحث عن أوضاع كل مدين على حدة، والوقوف على حقيقة حالته المادية وخاصة في هذا الظرف الذي انقلبت فيه مقاييس الملاءة والثراء، فلم تعد تظهر بمظاهر مادية واضحة وإنما تستتر وراء العمليات المصرفية أو المساهمة في الشركات الضخمة".
وهناك ثانيا خطورة البحث في أوضاع كل مدين، فالبحث في الوضعية الخاصة للمتعاقد قد يحمله على القيام بأعمال تتنافى مع القواعد الأخلاقية المفروضة: كالغش الضريبي باختفاء الربح وتهريب الثروة.
2- المقياس الموضوعي:
لإتقاء مختلف هذه النواقص التي يتركها المقياس الشخصي في تحديد الحالة التي يكون فيها المتعاقد أمام الخسارة الفادحة المكونة للإرهاق، برز المقياس الموضوعي الذي ما لبث أن التف حوله جمهرة الفقهاء وقرارات المحاكم. فموضوع العقد بحسب هذا المقياس هو الذي يجب أن يتخذ كأساس لتحديد الإرهاق والخسارة غير المألوفة. فلا يعتد على ضوئه بشخص المدين أو بظروفه الخاصة، وإنما يراعى ما يجاوز المألوف من خسارة بالنظر إلى موضوع التعامل. فالنظرة إذن من زاوية هذا المعيار هي إلى الصفقة ذاتها وليس إلى حالة المدين أو ظروفه. فهي لا تكون بالتوجه إلى كل مدين على حدة، كما يذهب إليه أنصار المعيار الشخصي، بل إلى كل صفقة على حدة.
فالتعديل عند تقدير الإرهاق هو على مدى اختلال التوازن الاقتصادي بين التزامات الطرفين بقطع النظر عن ثروة المدين،وعن أي ظرف آخر من شأنه أن يساعد المدين على تحمل الخسارة الفادحة المترتبة على الحادث.
وذلك التقدير لابد من أن يتم طبقا لمعطيات موضوعية عامة فيؤخذ من جهة بظروف التعامل ما هو مألوف فيه،وما هو غير مألوف. فقد يدخل الاختلال العقدي في صفقة معينة في إطار ما هو مألوف عادة بالنسبة لهذا النوع من الصفقات، وقد لا يكون كذلك بالنسبة إلى نوع آخر. ويؤخذ من جهة ثانية بالظروف المكانية والزمانية التي أبرمت أثناءها تلك الصفقات. فما هو مألوف في زمن غير عادي وفي مكان غير عادي لا يكون مألوفا في زمان ومكان عاديين.
والمهم من كل ذلك هو أن نبقى في بوتقة الاعتبارات الموضوعية،فالاعتبار هو للصفقة بظروفها الوضعية، وليس للمدين بظروفه الشخصية. " الالتزام الخاسر، دون الملتزم الخاسر هو الذي يجب أن يتخذ معيارا لتحديد الإرهاق المقصود" .
وبهذا المعيار الموضوعي قد أخذت المحاكم أيضا، وبقرارات عديدة. فقد اعتبرت محكمة النقض المصرية أنه يقتضي لتقرير الإرهاق الرجوع إلى الصفقة أو المعاملة نفسها وليس إلى شخص المتعاقد أو ظروفه. فتقدير "استثنائية" الخسارة، ووجود الإرهاق بنظرها منوط " بالاعتبارات الموضوعية بالنسبة للصفقة ذاتها". وذلك أمر متروك في تقديره إلى محكمة الموضوع تبعا لسلطتها التقديرية والمطلقة .
وليس صحيحا بعد ذلك أن يقال: من أن المحاكم في تقريرها للخسارة تعود إلى تقدير الظروف الشخصية والذاتية غير الموضوعية للمتعاقد المدين. إذ أنه لابد من التمييز بين وضعين: وضع أول يقوم على تحديد إمكانية مبدإ المساعدة وتوجبها. ووضع ثان يقوم على تحديد مقدار تلك المساعدة ومداها. ففي الوضعية الأولى إن المعيار كما بينا هو موضوعي بحث، لا تؤخذ فيها الحالة الشخصية أو أية حالة أخرى للمدين بعين الاعتبار، فالمهم على ضوئها أن نكون أمام اختلال غير مألوف في التوازن العقدي تتجاوز ما هو معروف في العادة بالنسبة لذلك النوع من التعاقد ولو لم يرهق المدين ذاته. وفي الوضعية الثانية قد يسترشد القضاء عند تحديده لمقدار تلك المساعدة ببعض الأوضاع الخاصة، وببعض الظروف الذاتية للمدين شرط أن ترتبط ارتباطا وثيقا بالصفقة موضوع التعاقد. إذ أن المسألة في هذه الحالة لا تعدو أن تكون مسألة تقدير المساعدة، شبيهة بسلطة القضاء بتقدير التعويض عن مسؤولية المدين نتيجة لخطئه وإهماله .
وخلاصة القول أن ما ورد في تحديد الأستاذ السنهوري من أن المهم بالنسبة لشرط الإٍرهاق المكون للظرف الاستثنائي – منظورا إليه لجهة أثره في التعاقد –هو أن يهدد المدين بخسارة فادحة ومعناه إذن على ضوء ذلك المعيار الموضوعي الذي أشرنا إليه هو في أن تصل الخسارة إلى الحد الاستثنائي غير المألوف بالنسبة للصفقة نفسها بمعزل عن شخصية المدين ووضعه وما قد يحيط به من ظروف خاصة.
مما تقدم يتبين بوضوح أن النظرة التقليدية إلى الظرف الطارئ تفترض لاكتماله توفر عنصرين: عنصر عدم التوقع وعنصر الاستثناء فاجتماعهما ليس كاف لتكوين ذلك الظرف بل إنه ضروري كذلك.
كما أن تلك النظرة تبين أيضا بأن أي من ذاك العنصرين لا ينظر إلى توفره إلا في مرحلتين: مرحلة الظرف ذاته ومرحلة نتيجته. فعنصر عدم التوقع يكون متوفرا في إحدى الوضعيتين: الحادث نفسه إذا لم يحتمل الشخص المعتاد وقوعه. ووضعية نتيجته إذا كانت غير طبيعية أو معتادة. كما أن عنصر الاستثناء يكون أيضا إما بالنظر إلى الحادث بمجرده على أساس ندرته وخروجه عن المألوف، وإما بالنظر إلى أثر ذلك الحادث على التعاقد بإرهاقه للمدين وتهديده بخسارة خاصة وفادحة. ولكن الفرق بين العنصرين، أنه يكفي لتوفر عنصر عدم التوقع توفر إحدى حالتيه: عدم توقع الحادث أو عدم عادية نتيجته، بينما لا يتوفر عنصر الاستثناء إلا بتوفر حالتيه: استثنائية الحادث ذاته واستثنائية أثره. فاستثنائية الحادث وحدها لا تكفي لتبرير تعديل العقد وإعادة النظر في مضمونه إذا كان أثره في التعاقد عاديا ومألوفا، كما أن استثنائية تلك النتيجة ليست كافية بذاتها إذا كان الحادث نفسه عاديا ومألوفا.
الفرع الثاني: المجال التطبيقي لإعادة النظر للظروف الطارئة
لقد بينا في الفرع السابق ماهية وطبيعة الظرف الطارئ المبرر الأساسي للتدخل القضائي في التعامل الخاص. فهو ذلك الظرف الاستثنائي الذي يترتب على وقوعه نتائج مرهقة وغير مألوفة تسبب للمدين في التعاقد خسارة خاصة غير اعتيادية دون أن ينسب إليه أي خطإ أو إهمال في حصوله أو بعد حصوله بتوقيه أو تجاوزه. لكن هل ينبغي أن يفهم من ذلك بأن نظرية إعادة النظر للظروف الطارئة لا تصيب إلا الأعمال الإرادية وحدها، أم أنها تصيب كافة الواقعات القانونية من إٍرادية وغير إرادية. وهل تلك النظرية لا تقع إلا على نوع واحد من الأعمال الإرادية، وهي الأعمال المتبادلة كالعقود أم أنها تنطبق أيضا على أي عمل إرادي متبادل أم غير متبادل نابع عن الإرادة المنفردة. وهل النظرية أخيرا تنحصر في تطبيقها على كافة الأعمال الإرادية المتبادلة، وهي المحل الطبيعي لإعادة النظر، أم أنه يقتضي حصر مجالها بأنواع معينة من تلك الأعمال التي لها بعض الخصائص المميزة من دونها جميعا.
إن النظرية في الواقع قد وجدت لتنطبق أساسا على العقود،ولكن ليس على كافة العقود،بل على تلك التي يتراخى موعد تنفيذها فترة زمنية ولو قصيرة يقع خلالها ذلك الحادث الاستثنائي . ولكنها لم توجد في المقابل لتنطبق على الأعمال غير العقدية من جرمية وغير جرمية، فهذه لا تأتلف إطلاقا مع منطق النظرية ،وبين هذين الوضعين،إذ لا مانع من إعمال النظرية في الأعمال الإرادية غير العقدية، كتلك التي تصدر عن إرادة منفردة، وأن تكون تلك الأعمال لا تشكل المحل الحقيقي للنظرية.
وبرجوعنا إلى مصادر الالتزام بصفة عامة نجد أن التأصيل الفقهي لمصادر الالتزام يقضي بردها إلى مصدر واحد هو الواقعة القانونية، فهي مصدر الحقوق جميعا. والواقعة القانونية هي أية حادثة إرادية كانت أم غير إرادية يكون من شأنها أن تعدل وضعا قانونيا قائما.وبعبارة أخرى هي "أمر يحدث فيرتب عليه القانون أثرا هو كسب الحق أو نقله أو تعديله أو انقضاؤه" .
وما يهمنا من تلك الوقائع القانونية في هذا المجال هو تلك الوقائع التي هي من فعل الإنسان وصنيعه. وما يهمنا من هذه الأخيرة هو الأعمال أو التصرفات القانونية، وهي أعمال الإرادة، سواء أكانت إرادة منفردة أم إرادة تعاقدية. فهذه الأعمال تشكل المحل لإعادة النظر في العقود عند حدوث ظروف طارئة واستثنائية. فلا بد إذن من أن نستبعد من إطار هذه النظرية الأعمال الجرمية وشبه الجرمية ولو كانت ناتجة عن فعل الإنسان، حتى ولو أراد الإنسان العمل والأثر المترتب عليه ، كما إذا قام بفعل نافع أثرى به الغير على حسابه. أو أراد العمل دون الأثر كارتكابه عملا غير مشروع. أو ألا يريد العمل أو الأثر، كما لو أضر بالغير عن إهمال ولكن دون أن يقصد العمل أو الضرر.
من هنا يتحدد مجال تطبيق النظرية من زاويتين: زاوية الالتزامات العقدية، وزاوية الالتزامات السابقة على التعاقد:
وسنخصص لكل زاوية مبحثا مستقلا على الشكل الآتي:
المبحث الأول: الالتزامات التعاقدية
المبحث الثاني: الالتزامات السابقة على التعاقد.
المبحث الأول: الالتزامات التعاقدية
ليست كل الالتزامات التعاقدية محل تطبيق نظرية الظروف الطارئة، بل يقتصر تطبيقها على العقود المؤجلة التنفيذ سواء كانت هذه العقود مستمرة أم فورية
إن التصرفات القانونية تنقسم إلى نوعين: فهي إما أن تكون صادرة من جانب واحد، وإما أن تكون صادرة عن الجانبين في التعاقد، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه النظرية تنطبق على هذين النوعين من الالتزامات الإرادية، أم ينحصر تطبيقها على أحدهما فقط.
فيما يتعلق بعقود المعاوضة المتبادلة لا نقاش حول خضوعها للنظرية. وكذلك الأمر بالنسبة للعقود المجانية كعقود التبرع. إلا أن النظرية لا تنطبق في هذه الأخيرة إلا على جهة واحدة هي جهة المتبرع وحده، فلا يستفيد منها المتبرع له. ويعلل الأستاذ منصور بديع هذا الرأي، بالأساس الأخلاقي لتلك العقود. فالمتبرع له بنظره لا يسعه أن يطالب بإعادة النظر في العقد الذي يستفيد من التزاماته لعلة أن أحداثا استثنائية قد حصلت فجعلت المتبرع به لا يأتلف أساسا مع قيمته قبل حصول تلك الأحداث، والسبب في ذلك هو قواعد الأخلاق. لأنه لا يتنافى مع القاعدة الخلقية، ومع حسن التصرف أن يتقدم المتبرع له بمطالبة قضائية بوجه من تبرع له مطالبا بزيادة ما تبرع به لأن ظرفا غير متوقع قد أخل في قيمته. فقبول طلبه معناه تناسي الأساس الأخلاقي الذي يستند إليه هذا النوع من العقود. يضاف إلى ذلك أن النظرية لم توجد إلا لتلافي الاختلال في التوازن العقدي بصورة غير مألوفة. وفي عقد التبرع ليس هناك من اختلال أو عجز قد يصيب المتبرع له لأنه يتلقى دون أن يتحمل في مقابل ما تلقاه أي مقابل. بل إن الحق بمطالبته للتخفيض ينبغي أن ينحصر في المتبرع له وحده عند تأثره بالظرف الطارئ، إذ لا يجوز تحميله عبئا مرهقا وإضافيا، وهو الملتزم أساسا بعمل غير متوازن وبعبء لا مقابل حقيقي له .
ولكن النقاش حول مجال النظرية ونطاق تطبيقها قد يثور بالنسبة للأعمال الإرادية الفردية النابعة عن إٍرادة المدين المنفردة.
يقول Boris Starck في هذا الصدد: إن النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – لابد من إعطاء مجالها مفهوما واسعا يشمل العمل الإٍرادي بإجماله دون تمييز بين ما كان صادرا منه عن إرادة منفردة أو إرادات متقابلة. فليس هناك من حائل بنظره يمنع من الأخذ بالنظرية بالنسبة "لكل تصرف قانوني حتى ولو كان التزامات بإرادة منفردة، كما لو التزم شخص ببيع شيء بإرادته المنفردة لمدة طويلة ". إلا أن المؤلف يعترف بحقيقة عملية، وهي أن المجال الحيوي للنظرية هو الاتفاقات العقدية المتبادلة.
وفي الواقع إن هذا الرأي الذي قال به Boris Starck وسواه من الفقهاء يبدو متفقا ومتلائما كليا مع مؤسسة تعديل العقد للظروف الطارئة وذلك لسببين :
الأول: هو أنه وإن كانت النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – قد أملت وجودها كرة الحيلولة دون بقاء المتعاقد خاضعا لا مرة ظروف خارجية لا يد له في وقوعها وذلك عن طريق إقامة نوع من التوازن التقريبي في التعاقد، فمن باب أولي إخضاع المدين في الالتزام الإرادي الناشئ عن إرادته المنفردة لإعادة النظر في التزامه الذي أصبح أكثر إرهاقا بفعل تلك الظروف الاستثنائية وطالما أنه لا يوجد مقابل مادي ومباشر لللإلتزامات. فالروح التي أملت تخفيف المسؤولية عن الوكيل غير المأجور أو الناقل نقلا مجانيا – وهي روح الإنصاف والعدالة لعدم وجود مقابل مباشر يستفيد منه الوكيل أو الناقل مجانا – هي التي تملي أيضا مساعدة من يلتزم بإرادته المنفردة دون أن يقابل التزامه آنيا التزام آخر .
والثاني: هو أن التدخل القضائي في العقود عند تغير الظروف مرده إلى الإٍرهاق الذي يصيب المدين من جراء إلزامه بمتابعة موجباته. وهذا الإرهاق لا يعفي من نتائجه الملتزم بإرادة منفردة. فمنطق النظرية يقضي بمعاملة المدين في كل من نوعي الالتزامات الإٍرادية معاملة واحدة. فارتفاع الأسعار ارتفاعا ملحوظا يؤدي إلى إضافة أعباء جديدة على الملتزم تؤدي به إلى تحمل خسارة فادحة في حال متابعته لتنفيذ التزاماته سواء أكان مصدر التزامه عقدا من العقود أم إرادته المنفردة، فنتيجة ارتفاع الأسعار تصيب المدين في كلا الوضعين، بل قد تكون تلك الخسارة أشد أثرا على المدين في الالتزام بإرادة منفردة خاصة إذا لم يكن هناك من مقابل يسعى إليه أو على الأقل ليس هناك من مقابل فوري ومباشر يقابل التزاماته عند حصولها.
خلاصة القول إذن، هي أن نظرية إعادة النظر في الظروف الطارئة لها مفهوم عام يشمل العمل القانوني، لا تفرقة فيه بين أن يكون صادرا عن إرادته منفردة أم عن إرادة متعاقدة إن كان الطابع الغالب هو في تطبيقها على العقود.
ولكن السبب الذي يحملنا إلى البحث في مدى ذلك الانطباق هو سبب نظري يعود إلى التقسيمات العديدة المعتمدة لأنواع تلك العقود، مما يحمل على التساؤل، هل كافة العقود بمختلف تقسيماتها تدخل ضمن الإطار العملي للنظرية؟
بداية يمكن القول بأنه هناك أمران لابد من التأكيد عليهما: الأول: أنه لا أثر لمختلف هذه التقسيمات أو لسواها على إطار تلك النظرية. والثاني: هو أنه يكفي أن يكون هناك فاصل زمني ولو ضئيلا بين ابرام العقد وبين تنفيذه ليكون محلا لإعادة النظر كلما اختل توازنه لأحداث وقعت خلال تلك الفترة الزمنية أو لمتابعة التنفيذ .
وبالفعل، فإن العقود مهما كان نوعها أو تقسيمها: سواء أكانت عقود معاوضة أو تبرع، متبادلة أو غير متبادلة، محددة أو احتمالية، رضائية أم غير رضائية... تكون محلا لتطبيق النظرية. فيكفي كما قلنا وجود فترة زمنية فاصلة ولو كان العقد بطبيعته رغم تلك الفترة عقدا فوريا أو احتماليا، وأن يحصل اختلال في توازنه بصورة غير مألوفة بنتيجته لظرف طارئ وقع قبل تنفيذه لكي تكون النظرية في مجال عملها الطبيعي والمطلوب .
إن هذه الوضعية الشاملة لكافة العقود المتراخية التنفيذ للنظرية – إعادة النظر للظروف الطارئة – لم يتوصل إليها الفقه والاجتهاد إلا في فترته الأخيرة. فقد أثير نقاش فقهي حول مجال إعمال النظرية بالنسبة لأنواع العقود ودار حول أساسين: الأول و يتناول العقود الفورية مهما كان الشكل الذي تظهر من خلاله، مؤجلة أم متراخية التنفيذ، هل تخضع لإعادة النظر إذا أصابتها ظروف طارئة، أم أنها بسبب طبيعتها الآنية تخرج من الحيز التطبيقي لتلك النظرية، مما يقضي بحصرها في العقود التي يعتبر الزمن عنصرا جوهريا في تكوينها، كالعقود المتتابعة التنفيذ، أي الدورية، أو العقود الزمنية. الجواب لن يرتبط بالعقود الفورية أو المتتابعة التنفيذ، وإنما يتعلق بالعقود الاحتمالية، فما هو حكم هذه العقود؟
إن عقد الاحتمال هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد وقت إتمام العقد من حيث القدر الذي أخذ أو القدر الذي أعطى. ولا يتحدد ذلك إلا في المستقبل تبعا لحدوث أمر غير محقق الحصول أو معروف وقت حصوله .
وقد يكون ذلك الاحتمال قائما لجهة المتعاقدين معا. فلا يعرف أحدهما مدى احتمال كسبه أو خسارته وقت التعاقد، كالبيع في مقابل مرتب لمدى الحياة. فالبائع أو المشتري في هذا العقد وإن كان يعرف المقدار الذي أعطى فهو لا يعرف المقدار الذي أخذ. فالاحتمال موجود لدى أي من المتعاقدين.
وقد يكون الاحتمال موجودا في ذهن أحدهما دون الآخر ، ومع ذلك فإن العقد لا يفقد صفته الاحتمالية. ففي عقد التأمين ضد الحريق مثلا، نجد احتمال الكسب أو الخسارة بالنسبة لشركة التأمين لا يكون متوفرا، إذ أنها تبعا لدراسات تقوم بها، تستطيع أن تقدر عمليا الحوادث التي قد تقع وتبنى حساباتها على هذا الأساس. فتحدد قيمة الاشتراك وشروطه وفقا لما تراه ملائما لمصلحتهما بالكسب دون الخسارة. وكذلك الأمر في عمليات الرهان التي تتولاها الدولة. فهي تخرج بالنتيجة بكسب مستمر ناتج عن فائض توزيع جزء مما حصلته من المشتركين على الخاسرين منهم محتفظة بالقسم الباقي، فهذه العقود وسواها لا ينفي عنها وجود الاحتمال لجهة طرف واحد في التعاقد وعدم وجوده بالنسبة للطرف الآخر صفتها الاحتمالية.
والسؤال المطروح هو: هل هذه النظرية – التي وجدت أساسا لإعادة التوازن العقدي- تتفق مع عقود الاحتمال وهي التي تعتمد احتمال الاختلال في التوازن كعنصر من عناصرها أم لا؟
إن الرأي الغالب في الفقه والقضاء يرى أنه من غير المنطقي إخضاع هذه العقود للتعديل القضائي ولو كان مرد ذلك إلى اختلال توازنها بسبب ظرف طارئ غير متوقع. ولكن هل من المنطقي عدم إخضاع عقود الاحتمال وكمبدإ للنظرية؟
1- عقود الاحتمال: إخراجها من حيز النظرية:
يعتمد البعض على الصفة الجزافية التي تسود عقود الاحتمال لإخراجها على أنواعها من النطاق العملي للنظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – ولاعتبارها استثناء عن مفهومها الشامل. فاحتمال الكسب أو الخسارة التي تشكل المعيار المميز للعقد الاحتمالي لا يتفق إطلاقا مع الطبيعة القانونية للنظرية .
وتنزل عقود المضاربة (في البورصة) وعقود القرض منزلة العقود الاحتمالية لجهة الأخذ بالنظرية. الأولى لأنها " تعرض بطبيعتها أحد المتعاقدين لاحتمال كسب كبير أو خسارة جسيمة، كما أنه يمكن في هذا النوع من العقود لمن يتوقع خسارة فادحة أن يتفاداها بعملية عكسية". والثانية لأن المدين يلتزم فيها بمقدار عددها المذكور في القرض دون أن تتأثر بارتفاع قيمة النقد أو انخفاضه . وقد أخذت عدد من المحاكم بهذا الاتجاه "فالنظرية برأيها لا تطبق على عقود الغرر (الاحتمال) لأنها بطبيعتها تعرض المتعاقدين لاحتمال كسب كبير أو خسارة فادحة".
2- عقود الاحتمال: إخضاعها للنظرية
إن إطلاق مبدإ الرفض في تطبيق النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – على عقود الاحتمال أو العقود التي يتوفر فيها عنصر احتمال الربح أو الخسارة هو افتراض يقبل المناقشة. فعنصر احتمال الربح أو الخسارة موجود في أي نوع من العقود ولو كانت من العقود المحددة إلا أن وجوده يكون على درجات متفاوتة. فهو قليل في العقود المحددة، ومتوسط في العقود غير المحددة، وقائم إطلاقا في العقود الاحتمالية. وعلى درجة ذلك الاحتمال يتوقف الإطار العملي للنظرية ومدى شموله. ففي العقود المحددة التي يستطيع فيها كل من المتعاقدين أن يحدد وقت إبرامها والمقدار الذي حصل عليه والمقدار الذي التزم به ولو لم يكن ذلك على وجه الدقة، تكون النظرية في مجالها الطبيعي وفي إطار عملها المنتظم. فاحتمال تغير ما توقعه المتعاقد من تعادل لالتزاماته مع ما يقابلها من التزام عند إبرامه للعقد كان محددا ومقيدا. فطرأ حادث مستقبل وقع عند تنفيذها، غير أنه في ميزان ما احتمله أطراف التعاقد وأخل في التوازن المقصود يفرض تعديل العقد بإعادة النظرية قضائيا لضآلة ذلك الاحتمال. وفي عقود المرابحة المضاربة يتوقع كل من المتعاقدين بصورة أوضح احتمال حصول الربح أو الخسارة. إلا أنه احتمال منوط بمقدار عينته الإرادة المتعاقدة وقت التعاقد. فخروج الربح أو الخسارة بعد ذلك عن حدود ذلك المقدار لظروف استثنائية أخلت بالتوازن المقصود من التعاقد لا يحول أيضا دون الأخذ بالنظرية . فعلى الرغم من أن الفكرة التي سيطرت على المتعاقدين كما يقول الأستاذ مصطفى الجمال، هي فكرة جني الربح على حساب المتعاقد الآخر إلا أنه ربح بمقدار. فهناك توازن أراده المتعاقدون انصرفت إليه إرادتهم،ولكنها لم تنصرف إلى ما قد يتجاوزه. فحصول الإخلال بذلك التوازن المقصود بشكل يخرج عن إطار التوقع العقدي للربح والخسارة يسوغ للقضاء حق التدخل في العقد لإعادة توازنه.
وعلى هذا الأساس فالبحث في قبول النظرية لتنطبق على عقود الاحتمال ينبغي أن يعتمد نهجا آخر يختلف عن النهج الذي اتبع.
ففي عقد الاحتمال يكون احتمال الربح أو الخسارة أمرا متوقعا، إلا أنه احتمال لربح وخسارة من الممكن تحديدها . وذلك في حقيقته يؤدي إلى نتيجتين: الأولى وهي أن المتعاقد عند إبرامه لعقد جزافي يفترض أنه قبل بتحمل المخاطر التي قد تنتج عن ذلك العقد، فيستفيد من الربح ويتحمل الخسارة. والثانية هي أن المتعاقد في العقد الجزافي لم يقبل بتحمل أية مخاطر وإنما تلك المخاطر التي دخلت في إطار توقعه، وإن اتسعت دائرته.
"إن تتبع ذلك التحليل لابد من أن يقودنا إلى نتيجة أساسية على الصعيد العملي للنظرية. فإذا كان مبدأ رفض تطبيقها على عقود الاحتمال يعود في سببه إلى وجود التوقع الذي تفترضه طبيعة تلك العقود، فإن مبدأ الرفض المشار إليه لا يكون مقبولا كمبدإ إلا في إطار الاحتمال، أي في إطار التوقع الذي من الممكن تحديده، فتنطبق النظرية على عقود الاحتمال ولكن خارج "الإطار التوقعي" ومحتواه. فيصبح وجود التوقع في عقود الاحتمال ليس سببا لإبعادها من الحيز التطبيقي للنظرية طالما أن الاختلال العقدي في تلك العقود قد يصل في حجمه مقدارا يتجاوز ما توقعته الإرادة الحقيقية للمتعاقدين، أو ما يفترض أنها قد توقعته تبعا للطبيعة الموضوعية للعقد الذي أبرمته. فيؤخذ بها نسبة لهذا الجزء الذي تجاوز ذلك التوقع" ، و يصبح سببا لتحميل المدين قدرا أكبر من العبء، إذ أن هناك قدرا أكبر من الالتزام المرهق بنتيجة الاختلال العقدي يتحمله المدين وحده بسبب توقعه أو افتراض توقعه، ويشترك إضافة في تحمل جزء من القدر غير المتوقع من ذلك الالتزام بمفعول إعمال النظرية، يعود التقسيم في مقداره إلى سلطة القضاء أو استنسابه كما بينا.
نخلص إلى القول بأن نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة،هي نظرية ذات مفهوم شامل، تتناول في تطبيقها كل عمل قانوني، سواء كان عقدا أو تصرفا بإرادة منفردة، وسواء كان ذلك العقد عقدا فوريا أو زمنيا، متبادلا أو غير متبادل، احتماليا، أم محققا، شرط أن يكون هناك فاصل زمني مهما بلغت مدته بين تاريخ إبرام العقود وتاريخ تنفيذه.
المبحث الثاني: الالتزامات السابقة على التعاقد
نعتبر المرحلة السابقة على التعاقد كما يقول الأستاذ محمد عبد الظاهر حسين : " من أهم مراحله وأخطرها بما تحتويه من تحديد لأهم ومعظم التزامات وحقوق طرفي العقد، وبما ينشأ عنها من مشكلات قانونية عديدة، سواء منها ما يتعلق بالمخالفات اللاحقة للالتزامات السابق تحديدها في هذه المرحلة، أو ما يتعلق منها بنطاق ونوع المسؤولية التي تنشأ على عاتق الطرف الذي بسببه لم ينعقد العقد وتوقفت العلاقات بين الأطراف على هذه المرحلة السابقة على التعاقد. وعادة ما تستغرق هذه المرحلة وقتا طويلا أكثر من الوقت اللازم لإبرام العقد وخاصة في العقود غير التقليدية التي لا تلائمها القواعد التقليدية للإيجاب والقبول. فهذه القواعد أصبحت غير قادرة على الاستجابة لضرورات وسائل الإنتاج الصناعي وطرق التسويق الحديثة وتعجز عن مجابهة المخاطر التي تنطوي عليها عادة العقود غير التقليدية.
وتأتي أهمية دراسة المرحلة السابقة على التعاقد من ناحية عدم اهتمام المشرع بها في كثير من الدول مثل اهتمامه بالمراحل التالية على إبرام العقد،إذ أن الحديث في معظم نصوص التقنين المدني ينصب على تنفيذ كل طرف في العقد لالتزاماته، وكذا المسؤولية المترتبة على الإخلال بهذه الالتزامات أو بعضها من خلال التوسع في الكلام عن المسؤولية العقدية بعناصرها الخطأ والضرر وعلاقة السببية .
وهذا الاتجاه من جانب المشرع أثر بلا شك في اتجاه الفقه الذي ركز بدوره على مراحل تنفيذ العقد وإنهائه أكثر من تركيزه على المرحلة السابقة على إبرامه، ويتضح ذلك من خلال الإطلاع على العديد من الدراسات القانونية المتعلقة بنظرية العقد، إذ نجد معظمها يهتم بدراسة الجوانب والآثار القانونية التي تثيرها المراحل الآلية على إبرام العقد.
وأهم جانب من الجوانب القانونية للمرحلة السابقة على التعاقد يكمن في كيفية حماية أطراف العقد المزمع إبرامه في هذه المرحلة. أي حمايتهم في مرحلة التفاوض للتمهيد لإبرام العقد. إذ أن هذه المرحلة تتطلب التدقيق في مسائل مختلفة بشأن العقد مثل مواعيد التوريد والتنفيذ والأسعار وشروط مراجعة العقد وضمان حسن التنفيذ. ويتم خلال هذه المرحلة عدد هائل من العمليات، مثل القيام بأعمال تحضيرية وفحوص فنية ودراسات اقتصادية وإعداد خطط المشروع محل العقد وتوفير وسائل التمويل والتأمين .
ثم يأتي الجانب الثاني لهذه المرحلة ويتعلق بالحالة التي تفشل فيها المفاوضات على التعاقد،ويكون سبب الفشل راجعا إلى أحد الطرفين.فهنا تثور – بلا شك – مسألة نوع ونطاق المسؤولية التي تنشأ على عاتق هذا الطرف، وكذلك مدى حق الطرف الآخر في المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي قد تصيبه من جراء عدم إبرام العقد، فما أحكام دعوى التعويض التي يملك رفعها في هذه الحالة؟".
لن نجيب على هذا السؤال في هذا البحث، وإنما سنقصر بحثنا على مفهوم الالتزامات السابقة على التعاقد فقط،وعلى إمكانية تطبيق آثار الظروف الطارئة عليها.
يقصد بالإجراءات السابقة على التعاقد كل تدبير يسبق إبرام العقد ويعتبر داخلا في المراحل التمهيدية التي قد تؤدي أولا إلى قيام العقد في شكله النهائي. ومن أمثلة هذه الإجراءات التمهيدية الوعد بالتعاقد،والاتفاق الابتدائي،والتعاقد المصحوب بالعربون، والتعاقد المعلق على شرط فاسخ أو شرط واقف، والبيع الايجاري، والبيع بالخيارات والبيع المتوقف على أمر يتطلبه القانون .
والواضح أنني لن أتولى دراسة هذه العناوين جميعها لأنها تتطلب وقتا أطول وصفحات متعددة.
لهذا أثرت أن آخذ نموذجا واحدا من هذه الحالات، وهي حالة الوعد بالتعاقد، والاتفاق الابتدائي، إذن فما المقصود بهما، وما هي الآثار التي تترتب عليهما؟
أ- الوعد بالتعاقد: هو " خطوة نحو التعاقد النهائي" وأمثلته متعددة فقد يأنس شخص في نفسه القدرة على شراء عقار أو منقول بعد مرور فترة من الزمن، حيث تتوفر لديه الأموال اللازمة لذلك، فيتفق مع مالك هذا العقار أو المنقول على أن يعطيه وعدا بالبيع متى أبدى رغبته في الشراء خلال مدة محدودة معينة يبقى المالك ملتزما خلالها بوعده .
وكما يمكن أن يكون الوعد بالبيع وعدا بالشراء إذا كان المشتري في هذه الفترة هو الذي وعد بالشراء متى ما أفصح المالك عن رغبته في بيع الشراء الموعود بيعه .
ب- الاتفاق الابتدائي: الوعد بالتعاقدPromesse de contrat قد يتحول إلى اتفاق ابتدائي Contrat préliminaire إذا أصبح ملزما للجانبين، بدلا من جانب واحد. فقد تتجه إرادة شخصان إلى إبرام عقد بات ونهائيا ولكن يحول دون ذلك قيام بعض العقبات القانونية أو الواقعية، أو ضرورة الحصول على وثيقة هامة يقتضيها تسجيل الشيء المراد بيعه. ومن ذلك أيضا ضرورة الحصول على إذن أو تصريح من إحدى الجهات الإدارية. مثل المحافظة أو من إحدى الجهات القضائية مثل المحكمة الشرعية
لهذا وحرصا على عدم ضياع الصفقة يحدث كثيرا إزاء هذا الموقف أن يبرم هذان الشخصان عقدا ابتدائيا يتعهد فيه الواحد منهما تجاه الآخر بأن يوقع في مدة معينة على العقد النهائي الذي سينجز بعد زوال العقبة التي كانت تحول دون إبرامه. فالعقد أو الاتفاق الابتدائي ما هو في حقيقة أمره إلا وعد بالتعاقد. ولكنه وعد لا يلزم جانبا واحدا، وإنما يلزم الجانبين على حد سواء .
فإذا تصادف أن وقعت ظروف طارئة بين الوعد بالتعاقد، وقيام العقد النهائي فصل تطبيق أحكام النظرية في هذه الحالة.
لقد عرضت هذه المشكلة على القضاء الفرنسي في محاولة لتطبيق فكرة الغبن اللاحق (n a posteriori ). إلا أن البحث في هذه المشكلة لم يتعد حالات الوعد ببيع العقارات، إذ المعروف في القانون الفرنسي أن الغبن لا يطبق إلا في حالة بيع العقار .
وقد انقسم الفقه الفرنسي إلى فريقين: - اعتد الفريق الأول في تقدير الغبن بما تكون عليه قيمة العقار وقت الاتفاق على الوعد. واستمد أنصار هذا الرأي حجتهم من طبيعة الغبن كعيب من عيوب الرضا (Un vice du consentement).
"ففي حالة الوعد بالبيع مثلا، لا يمكن القول بأن الرضا يشوبه عيب الغبن إلا في وقت الاتفاق على الوعد باعتبار أن هذا الوقت هو الذي يتم فيه التعبير عن الرضا.
أما الفريق الثاني فيرى أن الوقت الذي ينظر فيه إلى قيمة العقار وحالته بغية تقدير الغبن هو الوقت الذي يفصح فيه الموعود له عن رغبته في الشراء "au jour de la levée de l’option" .
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي أيد هذا الاتجاه بإصداره تشريعا بتاريخ 28 نوفمبر سنة 1949 أضاف به فقرة ثانية إلى المادة 1675 تنص "على أنه في حالة الوعد بالبيع من جانب واحد يقدر الغبن في اليوم الذي يتحقق فيه الوعد" (En cas de promesse de vente unilatéral-la lésion s’apprécie au jour de la réalisation ) كما أخضعت المجموعة المدينة العامة للإمبراطورية النمساوية الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي وحدهما لأحكام نظرية الظروف الطارئة إذ لم تعترف هذه المجموعة بأحكام هذه النظرية إلا في حالة مشروعية العقد avant - contrat .
فإذا حدث أن اختل التوازن الاقتصادي بسبب تغير الظروف خلال الفترة الفاصلة ما بين الوعد بالتعاقد، أو الاتفاق الابتدائي وإبرام العقد النهائي البات فإن النظرية حينئذ تجد سبيلها إلى التطبيق بالنسبة إلى هذا العقد النهائي والبات" .
خـــاتمــــــة
مراجعة الالتزامات المرهقة من النظرية الشاملة لمختلف فروع القانون، فهي نظرية القانون العام، وهي نظرية القانون الاقتصادي، وعلى القضاء أن يعترف بها كنظرية في القانون الخاص، ولكن ذلك يتطلب منه إرادة التقرير - إرادة تؤمن للنظرية تقنيتها، وليس عليه إلا أن يعتمد تلك التقنية فيكمل فراغ النص، ويتعامل مع روح العصر ومتطلباته، فهذا العصر هو بحق عصر الظروف المتغيرة. – والقانون وإن قصر في استحداث النصوص المسايرة للتطور، على القضاء أن يسد هذا النقص بما لديه من سلطة تمارس استخدامها في عدة أبواب من القانون رغم أن عمله هذا يخضع لمعايير متعددة ورقابة لا تخضع لها سلطة أخرى كفيلة بإبعاد خطر كل تحكم أو الحذر من التحكم.
فالقضاء وهو الضامن للحقوق الفردية الخاصة والعامة يتوخى تحقيق العدالة بصورة أوسع نطاقا وأجزل نفعا من المشرع،مما يحمل بعد ذلك على التساؤل عن السبب الذي يدعو إلى الحذر من المراجعة القضائية للالتزامات المرهقة. وعلى التنكر لإبعادها... مع أن التدخل القضائي في العقود هو أكثر إيثارا من تدخل المشرع.
لهذا ندعو كما دعا أساتذتنا الدكتور أسامة عبد الرحمان إلى: إما مراجعة تشريعية للنظرية أو ترك المجال مفتوحا أمام القضاء لمسايرة التطور الاجتماعي والاقتصادي عن طريق مراجعة الالتزامات المرهقة.
قائمـــــة المراجـــع
أولا: المراجع العامة :
1- المؤلفات:
- أنور سلطان: النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول، مصادر الالتزام، الطبعة الثانية، 1958.
- أحمد حسن البرعي: نظرية الالتزام في القانون المغربي، مصادر الالتزام ، الطبعة الأولى سنة 1981.
- أحمد حشمت أبو ستيت: نظرية الالتزام في القانون المدني المصري، القاهرة، سنة 1950.
- حسين عامر: القوة الملزمة للعقد، الطبعة الأولى، سنة 1949.
- سليمان مرقس: نظرية العقد، القاهرة سنة 1956.
- سامي بديع منصور: التباث والتغيير في القاعدة القانونية، مكتبة الرازي للخدمات، لبنان، سنة 1995.
- عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، مصادر الالتزام ، دار إحياء التراث العربي القاهرة 1964.
- عبد المنعم فرج الصدة: نظرية العقد في قوانين البلاد العربية، بيروت، سنة 1980.
- مأمون الكزبري: نظرية الالتزام في ضوء قانون الالتزامات والعقود، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، سنة 1974.
- محمد بونبات: نظرية الظروف الطارئة بين الأخذ والرد في المغرب، سلسلة آفاق القانون (3) سنة 1999/2000.
-وهبة الزحيلي، نظرية الظروف الشرعية، ( مقارنة مع القانون الوضعي )، الطبعة الثانية مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1979.
2- الرسائل الجامعية:
- عبد السلام الترمانيني: نظرية الظروف الطارئة ، دراسة تاريخية ومقارنة للنظرية في الشريعة الإسلامية والشرائع الأوروبية وتطبيقات النظرية في تقنيات البلاد العربية، دار الفكر بغداد 1969.
- فاضل شاكر النعيمي: نظرية الظروف الطارئة بين الشريعة والقانون، مطبعة الفكر بغداد 1971.
- أسامة عبد الرحمان: نظرية الظروف الطارئة بين النظرية والتطبيق، رسالة النيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، الرباط 1983.
- أسامة عبد الرحمان: أثر نظرية العذر على الالتزامات التعاقدية، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء سنة 1990.
3- المجلات القانونية المغربية:
- مجلة القضاء والقانون، وزارة العدل.
- الملحق القضائي، المعهد القضائي.
- المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، كلية الحقوق ، الرباط.
4- المجلات القانونية العربية:
- المحاماة، مصر.
- مجلة الحقوق، الكويت.